ملخص سريع للمقالة

تُعد معركة حطين بقيادة صلاح الدين الأيوبي نقطة تحول كبرى في التاريخ الإسلامي، حيث جاءت في سياق انهيار الخلافة العباسية وانقسام الأمة الإسلامية، مقابل تمدد الحملات الصليبية التي استولت على القدس عام 1099م وارتكبت مجازر دموية. بعد ظهور الدولة الزنكية، بدأ مشروع مقاومة الاحتلال، وتوّج بظهور صلاح الدين، القائد الكردي الذي وحد مصر والشام والحجاز واليمن تحت راية واحدة. شكّل التهديد الصليبي المتزايد، واعتداءات أرناط حاكم الكرك على الحجاج، دافعًا لإعلان الجهاد. جهز صلاح الدين جيشًا ضخمًا، ونصب فخًا محكمًا في سهل حطين عام 1187م، حيث هزم الصليبيين هزيمة ساحقة، وأسر ملك القدس، وقتل أرناط. مهّد هذا النصر لتحرير مدن الساحل، ثم حصار القدس واستعادتها دون إراقة دماء، مع الحفاظ على دور العبادة. أثار هذا النصر صدمة في أوروبا، وأدى إلى انطلاق الحملة الصليبية الثالثة بقيادة ريتشارد قلب الأسد، والتي انتهت بصلح الرملة وبقاء القدس في يد المسلمين. توفي صلاح الدين عام 1193م وترك دولة موحدة، وإرثًا خالدًا لقائد جمع بين القوة والرحمة، والعقيدة والعدل.

مقدمة

تُعد معركة حطين واحدة من أعظم المعارك في التاريخ الإسلامي، بل وأكثرها تأثيرًا في مسار الصراع بين المسلمين والصليبيين في العصور الوسطى. جاءت هذه المعركة في وقت مفصلي من تاريخ الأمة، وفي سياق سياسي وعسكري معقد، كان فيه العالم الإسلامي يعيش حالة من التفرق والضعف، بينما يفرض الصليبيون وجودهم في قلب الشام، وخاصة في القدس.

في هذا المقال، سنأخذك في رحلة شاملة حول معركة حطين، بدايةً من الخلفية التاريخية للحملات الصليبية، مرورًا بسيرة القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي، ثم التحضيرات الدقيقة للمعركة، وتفاصيلها الحاسمة، وانتهاءً بنتائجها العظيمة، وتحرير القدس.


الحملة الصليبية الأولى وسقوط القدس

أسباب انطلاق الحملة الصليبية

في عام 1095م، أعلن البابا أوربان الثاني الدعوة لما سُمي بـ"الحرب المقدسة" لتحرير القدس من أيدي المسلمين، خلال مجمع كليرمونت في فرنسا. وقد استجاب آلاف الأوروبيين لهذه الدعوة بدوافع دينية، سياسية، واقتصادية، فبدأت أول حملة صليبية نحو الشرق.

سقوط القدس 1099م

في عام 1099م، دخل الصليبيون مدينة القدس بعد حصار دام أربعين يومًا. ارتكبوا مجازر مروعة بحق المسلمين واليهود، حيث قُتل عشرات الآلاف، ودُنس المسجد الأقصى. بعد السيطرة، أسس الصليبيون مملكة بيت المقدس إلى جانب إمارات أخرى في الرها وأنطاكية وطرابلس.


واقع العالم الإسلامي قبيل ظهور صلاح الدين

ضعف الخلافة العباسية والانقسام الداخلي

كانت الخلافة العباسية في بغداد تمر بمرحلة من الضعف الشديد، وفقدت السيطرة الفعلية على أطراف الدولة. تنازعت القوى بين السلاجقة والزنكيين والفاطميين، بينما تحالف بعض الأمراء المسلمين مع الصليبيين ضد إخوانهم.

بداية المقاومة الإسلامية

في الشام، برز عماد الدين زنكي ثم ابنه نور الدين محمود، الذين بدأوا بوضع أسس الجهاد المنظم ضد الاحتلال الصليبي. أسس نور الدين نموذجًا للدولة العادلة القائمة على الشريعة، ووحّد الشام، وبدأ يفكر بضم مصر لاحتواء الخطر الفاطمي وتأمين الجبهة الجنوبية.


صلاح الدين الأيوبي: النشأة والصعود

ولادة وتربية صلاح الدين

وُلد صلاح الدين الأيوبي سنة 532هـ/1138م في قلعة تكريت، لأسرة كردية عريقة. انتقل في صغره إلى حلب ودمشق، ونشأ في بيئة علمية وعسكرية تحت ظل الدولة الزنكية. تلقى تعليمًا دينيًا وشرعيًا، ودرس الفقه الشافعي، لكنه لم يكن فارسًا في بدايته.

بداية ظهوره في مصر

أرسل نور الدين قائده شيركوه إلى مصر عام 1164م لصد تدخلات الصليبيين، ورافقه صلاح الدين. وبعد عدة حملات، توفي شيركوه سنة 1169م، فاختير صلاح الدين وزيرًا للدولة الفاطمية. بدأ بالإصلاح، وأعاد مصر للخلافة العباسية سنة 1171م، منهياً قرنين من الحكم الفاطمي.

توسيع سلطته وتوحيد الشام

بعد وفاة نور الدين سنة 1174م، بدأ صلاح الدين بتوسيع نفوذه في الشام. ضم دمشق سلمًا، ثم حلب بعد سنوات من الحصار. بحلول عام 1183م، كان قد وحد مصر، الشام، الحجاز، واليمن، تحت راية الدولة الأيوبية.


إرهاصات معركة حطين

استفزازات أرناط وخرق الهدنة

أرناط حاكم الكرك، كان من أكثر القادة الصليبيين تطرفًا. في عام 1187م، هاجم قافلة حجاج مسلمين وقتل من فيها، بل هدد بالوصول إلى المدينة المنورة وهدم قبر الرسول ﷺ. اعتبر صلاح الدين هذا الفعل إعلانًا للحرب.

إعلان الجهاد وتعبئة الجيوش

بدأ صلاح الدين بالإعداد لمعركة كبرى. وجّه نداءً إلى كل الإمارات الإسلامية، فجاءته الجيوش من مصر، دمشق، حلب، الحجاز، الموصل. اجتمع حوالي 30,000 مقاتل تحت رايته، هدفهم واحد: تحرير القدس.


تفاصيل معركة حطين

خطة صلاح الدين العسكرية

اختار صلاح الدين سهلًا قرب قرية حطين، حيث لا ماء ولا ظل. حاصر الصليبيين ومنعهم من الوصول إلى بحيرة طبريا. أمر بإشعال النيران لخلق سحب دخانية تُربك العدو. كانت الخطة قائمة على استنزافهم قبل القتال المباشر.

يوم المعركة - 4 يوليو 1187م

في فجر ذلك اليوم، بدأت المعركة بهجوم منظم. أطلق الرماة وابلًا من السهام، واندفعت فرق الفرسان تحاصر الميمنة والميسرة الصليبية. حرُمت القوات الصليبية من الماء، وانهارت معنوياتهم. حاول فرسان الهيكل كسر الحصار لكنهم قُتلوا.

في النهاية، انهار الجيش الصليبي، وأُسر ملك القدس غي دي لوزينيان، وقُبض على أرناط. أعدمه صلاح الدين بيده، احترامًا لقسمه.


ما بعد حطين: فتح القدس

استرداد المدن الساحلية

بعد النصر في حطين، حرر صلاح الدين عددًا من المدن المهمة:

  • عكا
  • نابلس
  • عسقلان
  • يافا
  • صفد
  • بيسان

حصار القدس وتحريرها

وصل جيش المسلمين إلى القدس في سبتمبر 1187م. تفاوض ممثل الصليبيين باليان إبلين مع صلاح الدين، وسُلمت المدينة بعد الاتفاق على فدية. لم يُقتل أحد، ولم تُدنس الكنائس، وعامل صلاح الدين أهلها برحمة وعدل.


الحملة الصليبية الثالثة وصلاح الدين

ردة الفعل الأوروبية

أثار سقوط القدس غضب أوروبا، فأطلق البابا غريغوري الثامن حملة صليبية ثالثة. قادها ثلاثة ملوك:

  • ريتشارد قلب الأسد (إنجلترا)
  • فيليب أغسطس (فرنسا)
  • فريدريك بربروسا (ألمانيا)

المواجهات العسكرية

استعاد الصليبيون عكا بعد حصار طويل، وخاضوا معارك ضد صلاح الدين أبرزها:

  • معركة أرسوف: انتصر فيها ريتشارد.
  • حصار يافا: صده صلاح الدين ببسالة.

صلح الرملة

في 1192م، وُقع صلح الرملة:

  • تبقى القدس في يد المسلمين.
  • يُسمح للحجاج المسيحيين بزيارتها.
  • تبقى بعض مدن الساحل تحت يد الصليبيين.


وفاة صلاح الدين وإرثه

في 27 صفر 589هـ / مارس 1193م، تُوفي صلاح الدين في دمشق. لم يترك ثروة، بل تُوفي مدينًا، تاركًا وراءه إرثًا لا يُقدّر بثمن:

  • أعاد القدس للمسلمين.
  • وحّد بلاد الشام ومصر.
  • أسس دولة قوية ذات بُعد إسلامي.

دفن قرب الجامع الأموي، وبقي اسمه رمزًا للفروسية والشجاعة والعدل.


خاتمة: معركة غيرت مجرى التاريخ

معركة حطين لم تكن مجرد انتصار عسكري، بل كانت انتصارًا للعدالة، للوحدة، وللإرادة. أثبتت أن الأمة قادرة على النهوض متى ما اجتمعت على قائد مخلص وهدف نبيل.

ترك صلاح الدين الأيوبي مثالًا خالدًا للقائد العادل، الذي جمع بين الإيمان والسياسة، بين الرحمة والحزم، وجعل من القدس قلبًا نابضًا للأمة الإسلامية من جديد.